La patente

Stampa questo copione

لويجي بيرانديلّو

الرخصة

مسرحية في فصل واحد

ترجمة نبيل رضا المهايني

Luigi Pirandello

LA PATENTE - ATTO UNICO

Traduzione

Nabil R. Mahaini


غرفة قاضي التحقيق داندريا

يوجد في صدر الغرفة رف كبير يكاد يشغل كل الجدار، و قد صفت عليه علب خضراء يفترض أنها مليئة باألوراق.

تعلو طاولة المكتب أكوام ملفات، وهناك في الصدر وقربه على جدار اليمين أكوام أخرى.

يوجد أمام طاولة المكتب مقعدٌ من الجلد خاص بالقاضي، فضالً عن كراسي قديمة.

الغرفة الكبيرة رثة وباهتة. في الجدار اليميني يوجد الباب العام.

على اليسار هناك نافذة واسعة مقسمة من زجاج قديم. يوجد أمام النافذة شكل إطار لوحة عالية يسند قفصاً كبيراً. وهناك على طرف اليسار باب مخفي.

يدخل القاضي داندريا من الباب العام وهو يحمل قبعته ومعطفه ويحمل أيضاً قفصاً بحجم قبضة اليد أو أكبر بقليل، يتجه نحو القفص الكبير على اإلطار ويفتح بابه ثم يفتح باب القفص الصغير ويمرر منه طائر الحسون إلى القفص الكبير.

داندريا: - هيا، ادخل! عجل أيها الكسول! أوه! وأخيراً...الزم الصمت اآلن، مثل العادة، ودعني أدير العدالة بين هؤالء الرجال الصغار المساكين الشرسين.

يخلع معطفه ويعلقه مع القبعة على المشجب.

يجلس إلى الطاولة، يتناول ملف القضية التي يجب أن يحقق فيها، يهزه بنفاذ صبر في الهواء ثم ينفخ:

-                 أيها الرجل المبارك!


يتوقف لبرهة مستغرقاً في التفكير ثم يهز جرس اليد فيخرج من الباب العام البواب مارانكا.

مارانكا: - أمرك أيها السيد الفارس!

داندريا: - اسمع يامارانكا، اذهب إلى حارة الفرن القريبة، إلى بيت كياركيارو.

مارانكا: - )يتراجع إلى الوراء وهو يقوم بحركة تعوذ)1 ال تلفظ اسمه حبًا باهلل أيها السيد الفارس!

داندريا: - )يضرب بقبضته على الطاولة وقد استشاط غضباً( باهلل كفى! إني أمنعك من أن تستعرض أمامي كل هذه الوحشية ضد رجل مسكين. أقولها لمرة واحدة فقط وإلى األبد.

مارانكا: - عفواً أيها السيد الفارس. قلت ما قلت ألنه في صالحك أيضاً!

داندريا: - أه، مرة أخرى؟

مارانكا: - لن أزيد في الكالم. ماذا تريدني أن أصنع في بيت...هذا الـ...هذا الرجل النبيل؟

داندريا: - قل له إن قاضي التحقيق يريد أن يكلمه، و أحضره إلى هنا في الحال.

مارانكا: - حاالً، حسناً، أيها السي د الفارس. هل من أوامر أخرى؟

داندريا: - ال شيء آخر، اذهب.

يخرج مارانكا ويترك الباب مفتوحاً أمام ثالثة زمالء قضاة يدخلون بعباءاتهم وقبعاتهم على رؤوسهم ويتبادلون التحية مع داندريا ثم يذهبون جميعاً لمشاهدة الحسون في القفص.

القاضي األول: - إيه، ماذا يقول هذا السيد الحسون؟

القاضي الثاني: - أال تعلم أنك تثير الفضول بهذا الحسون الذي تأتي به معك؟

القاضي الثالث:- كل البلد تنعتك باسم القاضي الحسون

القاضي األول: - أين هو، أين هو القفص الصغير الذي تنقله به؟

القاضي الثاني: - )يأخذ القفص الصغير من على الطاولة التي اقترب

منها( هذا هو! انظروا أيها السادة: أشياء صبيانية! رجل جاد...


1مازال كثير من االيطاليين يقومون حتى اليوم ببعض حركات التعوّذ عند سماع أو مشاهدة أمر يظنّون ّأنه يجلب النحس. ومن هذه الحركات مدّ السبّابة والخنصر بحركة تهديد في الهواء، أو إمساك الرجال بقبضة اليد على ثيابهم التي تغطي أعضائهم التناسليّة.


داندريا: - آه، أنا، أشياء صبيانية، عن هذا القفص؟ وأنتم إذن، وعلى هذه الهيئة!

القاضي الثالث:- هه، هه، فلنحترم العباءة!

داندريا: - هيا بنا، كفى مزاحاً، إن نا اآلن في "الغرفة السرية".2 عندما كنت صبيًا كنت ألعب مع رفاقي لعبة "المحكمة". كان أحدنا يقوم بدور المتهم، واآلخر رئيس المحكمة، وآخرون قضاة، ومحامون... البد أنكم لعبتم أنتم أيضاً هذه اللعبة. أؤكد لكم أن نا كنا أكثر جدية وقتها!

القاضي األول: - بالفعل!

القاضي الثاني: - وكانت اللعبة تنتهي دائماً بالتضارب!

القاضي الثالث:- )يشير إلى ندبة قديمة على جبهته( ها كم مثالٌ:  ندبةٌ من

أثر حجر رماه علي محامي الدفاع عندما كنت أقوم بتمثيل دور نائب

ٍ

المدعي العام!

داندريا: - أجمل ما في األمر كانت تلك العباءة التي كنا نتباهى بها، فيها كانت تتجلى العظمة التي كانت تسربلنا ونحن صغار في داخلها. أما اآلن فالعكس صحيح: أصبحنا كباراً والعباءة هي لعبة أيام كنا صغاراً. وربما نحتاج لشجاعة كبيرة حتى نتمكن من أخذها بعين الجد! هاكم يا سادتي، )يأخذ من على الطاولة ملف قضية كياركيارو(، علي اآلن أن أحقق في هذه القضية. ال شيء أشد ظلماً من هذه القضية الجائرة ألنها تشتمل على أشرس ظلم يتخبط إنسان مسكين فيه، وهو يحاول التمرد عليه دونما أمل في النجاح. توجد هنا ضحية، شخص ال يجد من يشتكي عليه! فأراد أن يشتكي من اثنين في هذه القضية ، من أول اثنين وقع عليهما نظره. فأجل يا سادتي، أجل: على العدالة أن تلقي اللوم عليه، وتضعه في جانب الخطأ، الخطأ، الخطأ بال مغفرة، وذلك لتؤكد وبكل شراسة الظلم الذي وقع ذلك اإلنسان المسكين ضحية له.

القاضي األول: - لكن ما هي هذه القضية؟

داندريا: - القضية التي رفعها روزاريو كياركيارو.

ما إن ذكر االسم حتى تراجع القضاة إلى الوراء وقاموا مثلما فعل مارانكا بإشارات التعوذ وبحركات تنم عن الفزع بل وصاحوا:

2"In camera caritatis" تعبير التينيّ يعني حرفيّاً "في غرفة الرحمة" وذلك في إشارة إلى مكان اليسمع منه أحدٌ شيئاً، وكان التعبير يشير في القرون الوسطى إلى مكان ممارسة السلطة برحمة بعيداً عن امالءات القانون. ويستعمل التعبير أيضاً

عندما يقرّ المذنب بذنبه في السرّ وينفيه في العلن.


الثالثة معاً: - بالعذراء المقدسة! إلمس الحديد!3  هال سكت؟

داندريا: - هاكم، أرأيتم؟ فكيف لكم أن تحققوا العدالة لهذا الرجل المسكين!

القاضي األول: - عن أي عدالة تتحدث! إنه مجنون!

داندريا: - بل بائس تعيس!

القاضي الثاني: - قد يكون بائساً تعيساً لكنه، والعفو منك، يبقى مجنوناً! لقد

أقام دعوى تشهير ضد ابن العمدة وال أقل من ذلك، كذلك –

داندريا – ضد المستشار فاتسيو

القاضي الثالث: - تشهير أيضاً؟

القاضي األول: - طبعاً، هل فهمت؟ يقول ألنه فاجأهم وهم يقومون بإشارات التعوذ عند مروره أمامهم.

القاضي الثاني: - لكن أي تشهير وتشهير، إذا كان صيته قد ذاع في كل أنحاء البلد فاشتهر بعين النحس؟

داندريا – وإذا كان بوسع مئات الشهود أن يأتوا إلى المحكمة ليقسموا أنه أظهر في مناسبات كثيرة عالمات تؤكد أنه على علم بهذا الصيت خاصة عندما يثور على األمر ويحتج عليه احتجاجاً عنيفاً.

القاضي األول: - هل ترى؟ إنك تؤكد األمر بنفسك!

القاضي الثاني: - كيف يمكن لضمير مرتاح أن يدين بتهمة التشهير ابن

العمدة والمستشار فاتسيو ألنهما قاما على مرأى منه بحركة اليد التي يريد

الجميع أن يقوم بها عن طيب خاطر?

داندريا – وأنتم قبل الجميع؟

الثالثة معاً: - أال تعلم أنه أمر فظيع؟ نجانا هللا منه وأنقذنا!

داندريا – ثم إنكم ُتدهشون يا أصدقائي ألني أجيء معي بالحسون...خاصة وأنكم تعلمون أني أحمله ألني بقيت لوحدي منذ سنة. كان هذا حسون أمي، وهو يذكرني بها: إني ال أستطيع االنفصال عنه ألنه بالنسبة لي ذكرى حية عنها. أال ترون أني أكلمه وأصفر ألقلد تصفيره، وأنه يجيبني. أنا ال أعرف ماذا أقول له، لكنه يجيبني وهذا دليل على أنه يدرك شيئاً ما فيما أفعله. إنه مثلنا يا أصدقائي مثلنا تماماً، نظن أن الطبيعة تكلمنا بأشعار أزهارها أو بنجوم السماء بينما الطبيعة ال تعلم على األرجح بمجرد وجودنا.

3يقال في إيطاليا "المس حديداً" أو شيئاً مصنوعاً من الحديد للتطيّر والتعوّذ من سوء الطالع، ويقال في بلدان أخرى "انقر على الخشب" لدرء الحسد.


القاضي األول: - تابع تابع يا عزيزي بهذه الفلسفة وسترى كم ستكون النهاية سعيدة!

يسمع قرع على الباب العام ويطل مارانكا بعد قليل برأسه.

مارانكا: - مسموح؟

داندريا: - ادخل يا مارانكا.

مارانكا: - لم يكن موجوداً في البيت أيها السيد الفارس. تركت خبراً لدى

إحدى بناته بأن يرسلوه إلى هنا عندما يصل: على كل جاءت معي ابنته الصغرى روزينيالً. إذا سمح سيادتكم باستقبالها...

داندريا: - ال، إني أريد أن أتكل م معه!

مارانكا: - تقول إنها تريد أن تتوجه إليك أيها السي د الفارس وال أدري بأي توسل. إنها خائفة جدًا.

القاضي األول: - إن نا سنذهب، وداعاً يا داندريا!

تبادل تحيات، ثم يخرج القضاة الثالثة.

داندريا: - أدخلوها.

مارانكا: - حاالً أيها السيد الفارس.

يخرج هو أيضاً.

روزينيال فتاة في السنة السادس عشرة من عمرها، ترتدي مالبس فقيرة لكن بنوع من األناقة، تطل برأسها من الباب العام فال يظهر إال وجهها تحت الشال الصوفي األسود.

روزينيال : - مسموح؟

داندريا: - ادخلي، ادخلي.

روزينيال : - خادمة لسيادتك. يايسوع، أيها السي د القاضي، هل استدعيت

سيادتك أبي؟ ما األمر أيها السي د القاضي؟ لماذا؟ لقد جفت الدماء في

عروقنا من الخوف!

داندريا: - اهدئي! ِلم الخوف؟

روزينيال : - ألن نا نحن لم نتعامل البتة مع القضاء!

داندريا: - وهل يخيفكم القضاء بهذا الشكل؟


روزينيال : - أجل ياسي دي. أكرر أن الدماء جفت في عروقنا! األشرار هم الذين يتعاملون مع القضاء يا صاحب السعادة. أما نحن فلسنا إال أربع مساكين بائسين، فماذا يحل بنا إذا توجه حتى القضاء ضدنا... داندريا: - من أخبرك بهذا؟ اهدئي. إن القضاء ال يتوجه ضدكم.

روزينيال : - لماذا استدعيت أبي إذن يا صاحب السعادة؟

داندريا: - ألن أباك يريد أن يعارض القضاء بنفسه.

روزينيال : - أبي؟ ماذا تقول؟

داندريا: - ال تخافي. أال ترين أني أبتسم..وكيف؟ أال تعلمين أن أباك قدم دعوى ضد ابن العمدة والمستشار فاتسيو؟

روزينيال : - أبي؟ أبداً يا سي دي! ال نعلم شيئاً من هذا! هل قدم أبي دعوى؟

داندريا: - وهذه هي الملفات!

روزينيال : - يا إلهي! يا إلهي! ال تعره انتباهاً أيها السيد القاضي! إنه كالمجنون، أصبح أبي منذ شهر كالمجنون! منذ سنة وهو اليعمل، هل تعلم؟ ألنهم طردوه ووضعوه وسط الشارع، يعنفه الجميع، يبعده الجميع عنهم كأنه مصاب بالطاعون! آه! هل قدم دعوى؟ هل قدم دعوى ضد ابن العمدة؟ إنه مجنون، مجنون! إن هذه الحرب المشينة التي شنها الجميع عليه وهذا الصيت الذي ألصقوه به أثرت في عقله! أرجوك أيها السيد القاضي أن تجعله يسحب هذه الدعوى! اجعله يسحبها!

داندريا: - هذا ما أسعى إليها أيتها الحلوة! ولهذا السبب استدعيته، وأرجو أن أفلح في ذلك، لكنك تعلمين أنه من األسهل على المرء أن يصنع شرًا من أن يصنع خيراً.

روزينيال : - كيف يا صاحب السعادة! حتى بالنسبة لسيادتك؟

داندريا: - حتى بالنسبة لي. ألن الشر يا حلوة يمكن للجميع صنعه ومن قبل الجميع، أما الخير فال يصنع إال لمن هو بحاجة إليه. روزينيال : - وهل تعتقد أن أبي ال يحتاج إليه؟

داندريا: - أعتقد ذلك، أعتقد ذلك. لكن هذه الحاجة لعمل الخير يجلب يا بني تي عداوة األنفس التي نريد أن نحسن إليها وبشكل تصبح اإلفادة صعبة جدًا. هل تفهمين؟

روزينيال : - ال يا سيدي، لم أفهم. لكن افعل كل شيء يا سي دي! فلم يبق لنا

في هذا البلد خير وال سالم.

داندريا: - أو ال يمكنكم ترك هذا البلد؟

روزينيال: - إلى أين؟ إيه إنك ال تعرف يا سي دي كيف تسير األمور! إن ذلك الصيت يالحقنا أينما ذهبنا. ال ُينتزع البتة، وال حتى بالسكين. آه لو


ترى كيف أصبح أبي! لقد أطال لحيته فصار كالبومة..كما أنه فصل بنفسه يا صاحب السعادة وخاط بذة ستخيف كل الناس عندما يرتديها، بل إنها ستجعل الكالب تهرب بعيداً عنه!

داندريا: - ولماذا؟

روزينيال : - هو الذي يعرف السبب! كأنه جن، كما قلت لك! اجعله، اجعله يسحب الدعوى، رجاء!

يسمع قرعٌ على الباب العام من جديد.

داندريا: - من على الباب؟ تفضل.

مارانكا: - )وهو يرتجف( هاهو، سيدي الفارس! ماذا...ماذا يجب أن أفعل.

روزينيال : - أبي؟

تنتفض واقفة.

يا إلهي! ال تتركه يراني هنا يا صاحب السعادة، أرجوك!

داندريا: - لماذا؟ ما األمر؟ هل سيأكلك إذا وجدك هنا؟

روزينيال : - ال يا سيدي. لكنه ال يريد لنا أن نخرج من البيت. أين أختفي؟

داندريا: - هاك ال تخافي.

يفتح الباب المخفي في جدار اليسار.

اخرجي من هنا، ثم دوري عبر الممر وتجدين المخرج.

روزينيال : - طبعاً يا سي دي. أوصي سيادتك! في خدمتك.

تتسلل عبر الباب اليساري.

يغلقه داندريا وراءها.

داندريا: - أدخلوه.


مارانكا: - )يفتح الباب العام فتحة واسعة كي يتمكن من التنحي بأكثر مايمكن( تقدم، تقدم، ادخل..

وما إن يدخل كياركيارو حتى يهرب بسرعة.

تصن ع روزاريو كياركيارو سحنةً بديعة المنظر تظهره في صورة عينِ نحسٍ.

نمت فوق تجويف وجنتيه لحيةٌ كثيفة بشعر أجعد ووضع على أنفه نظارة مؤطرة بالعظم تعطيه منظر البوم، وارتدى بذة براقة فضفاضة تتهدل من كل األطراف وحمل في يده قصبة عليها مقبض مصنوع من قرن حيواني.

يدخل على وقع نشيد جنائزي ويضرب األرض بقصبته مع كل خطوة ويمثل أمام القاضي.

داندريا: - )ينتفض بعنف من شدة الحنق والغيظ، ويرمي أوراق القضية( هيا بنا! ما هذه القصة ! أال تخجل!

كياركيارو: - )ال يتأثر البتة بانتفاضة القاضي، يصك أسنانه الصفراء ويقول بصوت منخفض( هل هذا يعني أنك ال تصدق؟

داندريا: - قلت لك هيا بنا! لنترك المزاح جانباً، هيا يا عزيزي كياركيارو! اجلس، اجلس هنا.

يقترب منه ويحاول أن يضع يده على كتفه

كياركيارو: - )يبتعد حاالً الى الوراء وهو ينتفض( ال تقترب مني! احذر!

هل تريد أن تفقد بصر عينيك؟

داندريا: - )يحدق فيه ببرودة ويقول( تابع..عندما ترى من المناسب...لقد

استدعيتك لصالحك. يوجد هناك كرسي: اجلس.

كياركيارو: - )يأخذ الكرسي ويجلس وينظر إلى القاضي ثم يبدأ بدحرجة القصبة على فخذيه كأنها شوبك ويهز رأسه لمدة طويلة( لصالحي؟ تقول لصالحي..لديك الشجاعة لتقول إنه لصالحي! وهل أنت تتصور أيها السيد القاضي أنك تفعل ما هو بصالحي عندما تقول إنك ال تصدق عين النحس؟


داندريا: - )يجلس هو أيضاً( هل تريد مني أن أقول إني أصدق ذلك؟

كياركيارو: - )بحزم وبلهجة من ال يقبل المزاح( ال يا سيدي! يجب عليك

أن تصدق األمر بحق، بـ..حـ..ـق! ليس هذا وحسب بل يجب أن تبرهن

على هذا وأنت تحقق في القضية.

داندريا: - آه، انظر: هذا صعب بالفعل.

كياركيارو: - )ينهض ويهم بالتحرك( سأذهب إذن.

داندريا: - إيه، هيا! اجلس! قلت لك أال تثير مشاكل!

كياركيارو:- أنا؟ مشاكل؟ ال تقحمني فيها، أو أنك ستخوض تجربة...المس نفسك، المس نفسك تعوذاً.4

داندريا: - إني لن ألمس شيئاً.

كياركيارو: - قلت لك بأن تلمس نفسك! أال تعلم بأني رهيب؟

داندريا: - )بحزم( كفى ياكياركيارو! التثر غضبي. اجلس ولنحاول أن نتفاهم. لقد استدعيتك ألبرهن لك على أن هذه الطريق التقودك إلى مرفأ آمن.

كياركيارو: - إني محصور ياسي دي القاضي في حارة ضيقة وال أستطيع الحراك. فعن أي طريق تتكلم وعن أي مرفأ؟

داندريا: - عن الطريق التي أرى أنك تسير عليها وطريق القضية التي رفعتها. العفو، لكن هذه الطريق وتلك هما هكذا.

يصالب بين سبابتي يديه ليشير إلى أن الطريقين يظهران له متناقضين.

كياركيارو: - ال ياسيدي. هذا مايبدو لك.

داندريا: - كيف ال؟ يبدو من القضية أنك تتهم بالتشهير شخصين اثنين ألنهما يقوالن إنك عين نحس، واآلن تحضر أمامي على هذه الهيئة وبصورة عين النحس، بل وإنك تطلب مني أن أصدق تنحيسك هذا.

كياركيارو: - أجل يا سي دي. تماماً.

داندريا: - أوال يبدو لك أنت أيضاً أن في األمر تناقضاً؟

كياركيارو: - هناك أمر آخر يبدو لي أيها السيد القاضي. هو أنك لم تفهم شيئاً!

داندريا: - تابع، تابع يا عزيزي كياركيارو! لربما كانت حقيقة مقدسة هذه التي تدعي. أرجو أن تتكرم وتشرح لي لماذا ترى أني لم أفهم شيئاً.


4راجع الهامش رقم 1


كياركيارو: - سأخدمك في الحال. ولن أبرهن على أنك لم تفهم شيئاً وحسب، بل سأجعلك تلمس لمس اليد أيضاً بأنك عدو لي.

داندريا: - أنا؟

كياركيارو: - أنت. أجل أنت يا سيدي. قل لي: هل تعلم أم أنك التعلم أن ابن العمدة طلب رعاية المحامي لوريكيو؟ داندريا: - أعلم ذلك.

كياركيارو: -  وهل تعلم أني أنا، أنا روازيو كياركيارو، أنا بنفسي ذهبت

لعند المحامي لوريكيو ألعطيه كل براهين القضية: أخبرته بأني منذ سنة كاملة وأنا أشاهد الجميع يجابهونني عندما أمر أمامهم بإشارة القرون5 وغير ذلك من حركات التعوذ الالئقة وغير الالئقة6، بل إني أعطيته أيضاً أيها السيد القاضي براهين موثقة وشهادات ال تتكرر، هل تسمع، ال- تتـ ـ كـ - رر، عن كل األمور المرعبة التي يقوم عليها يقيناً– يـ - ـقيـ - ناً صيتي كعين نحس؟

داندريا: - أنت؟ كيف؟ هل تعني أنك ذهبت وقدمت البراهين إلى محامي

خصمك؟

كياركيارو: -  إلى لوريكيو، أجل يا سي دي.

داندريا: - )امتقع وجهه أكثر من ذي قبل( إيه...أعترف لك بأني أفهم اآلن أقل مما كنت أفهم في السابق.

كياركيارو: - أقل من السابق؟ بل إنك التفهم أبداً!

داندريا: - العفو...لقد ذهبت بالبراهين التي تدينك إلى محامي الخصم، لماذا؟ لتؤكد بما اليقبل الشك براءة ذانك الخصمين؟ فلماذا قدمت إذن تلك الدعوى؟

كياركيارو: - في هذا السؤال يكمن البرهان الفعلي على أنك أيها السيد القاضي التفهم شيئاً! لقد أقمت الدعوى ألني أريد الحصول على اعتراف رسمي بقوتي النحسية. هل مازلت غير قادر على الفهم؟ إني أريد أن يتم االعتراف رسميًا بقوتي الفظيعة هذه، آلنها هي اآلن رأسمالي الوحيد أيها السيد القاضي!

داندريا: - )ينفعل ويهم بمعانقته( آه يا لكياركيارو المسكين! يا كياركيارو المسكين! فهمت اآلن يا عزيزي! يا لهذا الرأسمال أيها المسكين كياركيارو، وماذا تفعل به؟


5راجع الهامش رقم 1

6راجع الهامش رقم 1


كياركيارو: - ماذا أفعل به؟ بل كيف ماذا أفعل به؟ أخبرني أيها السيد القاضي ألم يكن عليك قبل أن تمارس مهنة القضاء – ولو أنك تمارسها بطريقة سي ئة – أن تحصل على شهادة جامعية؟ داندريا: - إيه، أجل، الشهادة الجامعية...

كياركيارو: - إذن فإني أريد أنا أيضا الحصول على رخصة. رخصة تنحيس. عليها كل الطوابع واألختام المطلوبة. طوابع وأختام رسمية. ُمِّنحسٌ مرخصٌ من قبل السلطة القضائية.

داندريا: - وبعدها؟ ماذا ستفعل بها؟

كياركيارو: - ماذا سأفعل بها؟ هل أنت معتوهٌ بالفعل؟ سأطبعها على بطاقات الزيارة! هل هذا قليل؟ الرخصة! الرخصة! الرخصة! ستكون مهنتي أيها السي د القاضي! إني أبو عائلة فقير. كنت أعمل بشرف وإخالص، لكنهم طردوني وألقوا بي في وسط الشارع ألني أنحس اآلخرين! في وسط الشارع أنا وزوجتي المشلولة، على السرير منذ ثالث سنوات! ومع صبي تين تمزقان قلبك ألماً إن رأيتهما أيها السيد القاضي. جميلتان كلتاهما، لكن أحداً الينظر إليهما ألنهما ابنتي، هل تفهم؟ وهل تعلم كيف نعيش اآلن نحن األربعة؟ بالخبز الذي يقطعه ابني عن فمه وأفواه عائلته وأطفاله الثالثة! فهل تعتقد أن بوسع ابني المسكين أن يقوم من أجلي بهذه التضحية لمدة طويلة أخرى؟ لم يبق لي إذن أيها السيد القاضي إال أن أعمل بمهنة المُِّنحس!

داندريا: - وماذا ستربح؟

كياركيارو: - ماذا سأربح؟ سأشرح لك. بدأت بارتداء هذه البذة للتنكر على

ُ

هذه الهيئة. سأرعب اآلخرين! هذه اللحية...هذه النظارات..وماإن تعطيني

أنت تلك الرخصة حتى أدخل في المعمعة! قد تسألني وكيف؟ إنك تسألني–

أكرر – ألنك عدو لي!

داندريا: - أنا؟ كيف تظن هذا؟

كياركيارو: - أجل يا سي دي، أنت بالذات! ألنك تصر على عدم التصديق بقو تي! لكن اآلخرين لحسن الحظ يصدقوني، هل تعلم ذلك؟ هذا هو حظي! هناك كثير من بيوتات القمار في بلدتنا! يكفي أن أمثلُ هناك، وليس علي أن أفعل شيئاً. ستجد أن صاحب الدار والالعبين سيدسون النقود خلسة في يدي كي ال أقف إلى جانبهم ولكي أرحل عنهم! سأحوم مثل الذباب الكبير حول كل المصانع، وسأقف قرب هذه الدكان مرة وقرب تلك الدكان مرة أخرى. هل يوجد هناك صائغ مجوهرات؟ سأنغرس أمام واجهة ذلك الصائغ )يمث ل ذلك( وأنظر إلى الناس شزراً )يمث ل ذلك( فمن


سيرضى بعدها بالشراء من محل ذلك الصائغ أو من النظر إلى واجهة

محله؟ البد أن يخرج صاحب المحل حينها ليضع في يدي خمس ليرات

يبعدني بها عن محله ويطلب مني أن أقف حارسا أمام دكان منافسه

وغريمه. هل تفهم؟ ستكون نوعاً من الضرائب أفرضها من اآلن فصاعد

وأطلب سدادها!

داندريا: - ضريبة الجهل!

كياركيارو: - الجهل؟ ال، يا عزيزي! بل ضريبة الصحة! ألني راكمتُ كثيراً من المرارة وكثيراً من الحقد على هذه البشرية المقرفة بحيث أجزم عن حق أيها السي د القاضي، بأن لدي في هاتين العينين قوًة تكفي لهدم مدينة بكاملها وعن بكرة أبيها! فالمس نفسك، باهلل المس نفسك! أال ترى أنك استحلت مجرد تمثال من ملح!

يشعر داندريا برأفة عميقة فيبدو كاألبله وهو ينظر إليه.

كياركيارو: - انهض ! قم وحقق في هذه القضية التي ستدخل التاريخ واعمل على تبرئة المتهمْين بسبب انعدام الجرم، وهذا يعني بالنسبة لي اعترافاً رسميًا بمهنتي النحسية!

داندريا: - )ينهض( الرخصة؟

كياركيارو: - )ينتصب بصورة مضحكة وهو يضرب بقصبته( الرخصة، نعم يا سي دي!

لم ينته من كالمه عندما بدأت النافذة تنفتح شيئاً فشيئاً كما لو أن الريح تدفعها، ثم يضرب مصراعها اللوحة والقفص فيقع هذا محدثاً ضجيجاً كبيراً.

داندريا: - )يصرخ ثم يركض( آه، يا الهي ! الحسون! الحسون! آه يا الهي! لقد مات..لقد مات..الذكرى الوحيدة التي تبق ت لي من أمي..مات..مات...

عند سماع الصراخ يفتح الباب العام ويسرع القضاة الثالثة ومارانكا لكنهم يحجمون من الخوف عند رؤية كياركيارو.

الجميع: - ماذا حدث؟

داندريا: - الرياح...النافذة..الحسون...


كياركيارو: - )بصيحة انتصار( أي رياح! أي نافذة! هذا من صنعي! لم يكن يرغب في التصديق فقدمت له البرهان! أنا! أنا! وكما مات ذلك الحسون )يبتعد الجميع عنه وقد اضطربوا من شدة الفزع( فإنكم ستموتون جميعاً الواحد تلو اآلخر!

الجميع: - )يحتجون، يشتمون، يتوسلون جماعة( على روحك! ليقطع لسانك! ساعدنا يا الهي! إني أبو عائلة!

كياركيارو: - )يمد يديه بتعجرف( إذن تعالوا إلى هنا! حاالً! وادفعوا الضريبة! كلكم!

القضاة الثالثة: - )يهمون بإخراج النقود من جيوبهم( أجل! حاالً! هاهي!

على أن تذهب! حبا باهلل!

كياركيارو: - )يلتفت نحو القاضي داندريا مزهوًا، ويده مازالت ممدودة( هل رأيت؟ وهذا قبل أن أحصل على الرخصة! حقق في القضية! إني غني! إني غني!

ستارة